سورة البقرة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قوله تعالى: {الم}: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: {الر} [الحِجر: 1] وتقول: {حم} [الدُخان: 1] وتقول: {ن} [القلم: 1] فيكون الرحمن، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلاّ أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلاّ وهو مفتاح لإسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلاّ وهو في الآية وبلائه، وليس منها حرف إلاّ في مدّة قوم وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرَّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأُمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيداً ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَْ} [المرسلات: 48] أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} [العلق: 19] فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182] أراد جميع أبدانكم.
وقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
لما رأيت امرها في خطي *** وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط *** فلم يزل ضربي بها ومعطي
فعبّر بلفظة خطي عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أ ب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الحمد لله، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفاً واحداً عوداً للمعنى؟ وهل تجدون في كلام العرب أنْ يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف *** لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
نادوهم ألا الجموا ألا تا *** قالوا جميعاً كلّهم ألا فا
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
قد وعدتني أم عمرو أن تا *** تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح، وأنشد الزجّاج:
بالخير خيرات وإن شرّاً فا *** ولا أريد الشرّ إلاّ أن تا
أراد بقوله (فا): وإن شراً فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد اثنان ثلاثة أربعة.
قال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالخرف *** تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفاً من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا على ألف وواو *** وياء هاج بينهم جدال
وهذه الحروف تُذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفاً من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه (.....) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفاً، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفاً حرفاً إلى ثمانية وعشرين حرفاً، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّماً على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: {الم} فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {الم} قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله: {الم}: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: {الم} اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و(لام) مفتاح اسمه لطيف، و(ميم) مفتاح اسمه مجيد. خالد عن عكرمة قال: {الم} قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و(اللام) لطفه، و(الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و(اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا ريب فيه، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أهل الإشارة: (ألف): أنا، (لام): لي، (ميم): منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: {الم} فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء؛ لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و(الألف). إبتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و(الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، وإتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنىً عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باينَ بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الإلفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلاّ بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل {الم} من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: {الم} ابتداء، و{ذَلِكَ} ابتداء آخر و{الكتاب} خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
{ذَلِكَ}: قرأت العامة {ذلك} بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب.
و {الكتاب}: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً *** أتتك من الحجج تتلى كتابها
أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة:
وفراء غرفية أثاي خوارزها *** مشلشل ضيعته فبينها الكتب
ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
وكتيبة جاءوا ترفل *** في الحديد لها ذخرٌ
واختلفوا في هذا {الكتاب} قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل: هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلك) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
إن تك خيلي قد أُصيب صميمها *** فعمداَ على عين تيممت مالكا
أقول له الرمح يأطر متنه *** تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا
يريد (هذا).
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب: {ذَلِكَ الكتاب} الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: {ذَلِكَ الكتاب} الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمّة.
وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: {ذَلِكَ الكتاب} يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
{لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله.
قال: {هُدَى}: أي هو هدىً، وتم الكلام عند قوله فيه، وقيل: (هو) نصب على الحال، أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ} [البقرة: 197]: أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.
فصل في التقوى:
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}: اعلم أنّ التقوى أصله وقى من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جماع التقوى في قول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان...} الآية» [النحل: 90].
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى نفسه خيراً من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدِّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة *** إنّ الجبال من الحصا
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس.
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشَّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ***
الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضاً: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات.
أبو القاسم (حكيم): هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:
يريد المرء أنْ يعطى مناه *** ويأبى الله إلاّ ما أرادا
يقول المرء فائدتي وذخري *** وتقوى الله أفضل ما استفادا
فصل في الإيمان:
{الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام وبنيه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17]: أي بمصدق لنا ولو كنّا صادقين، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} والدليل عليه أيضاً أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان نسبه إلى القلب فقال: {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، وقال: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106]، وقال: {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22]، ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمساً، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكاً، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن تصديقاً؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] من خوف السيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان سراً» وأشار إلى صدره «والإسلام علانية»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه».
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويفتقرون إلى العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنفٌ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذَهَباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بيّاض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأَمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان»، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم».
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيماناً بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة؛ لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه؛ وإنّما الفرح والعلم في القلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله».
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعمل بالأركان».
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول».
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّباً عن العيون محصّلاً في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زَور، وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية {يُؤْمِنُونَ بالغيب} قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجئ بعد.
الضحاك: الغيب لا إله إلاّ الله وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} [النجم: 35] وقوله: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن: 26] وقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} [التكوير: 24].
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم».
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم»، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلَّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً».
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّناً لمن رآه والذي لا اله الاّ هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة} أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم سوقهم ولم يعطلوها قال الشاعر:
فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلّى عصاك كمستديم
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أراد الكتب [البقرة: 213]، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها عبادة سُميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصِلا وهو النار، فأصله من الرفق وحُسن المعاناة للشيء؛ وذلك إنّ الخشبة المعْوّجة إذا أرادوا تقويمها سحنوها بالنار قوموها بين خشبتين فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهراً وباطناً ولا يعجّل فيها ولا يخفّ ولا يعرف قال الشاعر:
فلا تعجّل بأمرك واستدمه *** فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الإنتفاع به، فإن كان طعاماً فليتغدّى به، وان كان لباساً فلينقى والتوقي، وإن كان مسكناً فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراماً، فلذلك قُلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، وأصل الرزق في اللغة: هو الحظ والبخت.
{يُنْفِقُونَ} يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يُقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه، والنفق: سُرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
{والذين يُؤْمِنُونَ}: أي يصدّقون {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}: يا محمد يعني القرآن {وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ}: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والأنجيل وغيرها.
{وبالآخرة} أي بالدار الآخرة، وسميّت آخرة لأنّها تكون بعد الدُّنيا ولأنّها أُخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
{هُمْ يُوقِنُونَ} يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هم) تأكيداً، يُسمّيه الكوفيون عماداً والبصريون فصلا.
{أولئك} أهل هذه الصفة، وأولاء: أسم مبني على الكسر، ولا واحد لهُ من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أولئك رفع بالابتداء وخبره في قوله: {على هُدًى} رشد وبيان وصواب. {مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك} ابتدائان و{هُمُ} عماد {المفلحون} خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
نحلُّ بلادا كلها حل قبلنا *** ونرجو فلاحاً بعد عاد وحمير
وقال آخر:
لو كان حي مدرك الفلاح *** أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح ***
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آيةً بعدها نزلت في المنافقين.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ}: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته.
وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر؛ لأنّه يستر البذر، قال الله تعالى: {أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]: يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد:
حتى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجن عورات الثغور ظلامها
في ليلة كفر النجوم غمامها ***
ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافراً لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ}: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي.
{أَأَنذَرْتَهُمْ}: أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يُقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أُعذر من أنذر، وفي قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} وأخواتها أربع قراءات: تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة؛ لأنها ألف الإستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وادخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
تطاولت فاستشرقت قرابته *** فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر
والأخبار اكتفاء بجواب الإستفهام، وهي قراءة الزهري.
{أَمْ}: حرف عطف على الإستفهام.
{لَمْ}: حرف جزم لا يلي إلاّ الفصل؛ لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
{تُنْذِرْهُمْ}: تحذرهم {لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال: {خَتَمَ الله}: أي طبع {على قُلُوبِهمْ} والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء والاستيثاق من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبراً ولا تفهمه. يدل عليه قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24].
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يُقال للرجل: ختمت عليك أن لا تفلح أبداً.
{وعلى سَمْعِهِمْ}: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر لا تُثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يُقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا *** فإن زمانكم زمن خميص
وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] يعني الأنوار.
قال الراعي:
بها جيف الحسري فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب
وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله: {وعلى سَمْعِهِمْ}.
ثم قال: {وعلى أَبْصَارِهِمْ}: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: {غِشَاوَةٌ} بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة.
يدل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23].
وقرأ الحسن: {غُشَاوَةٌ} بضم الغين، وقرأ الخدري: {غَشَاوَةٌ} بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ}: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل: العذاب ما يمنع الانسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أُبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ...}.


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا}: صدّقنا بالله {وباليوم الآخر}: أي يوم القيامة.
قال الله تعالى: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} والناس: هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنساناً؛ الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنساناً لأنه عُهِدَ إليه فنسي. قال الله تعالى {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]، وقال الشاعر:
وسُمّيتَ إنساناً لأنك ناسي ***
وقال بعض أهل المعاني: سُمّي إنساناً لظهوره وقدس البصير أياه من قولك: آنست كذا: أي أبصرت. فقال الله تعالى {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] وقيل: لأنه استانس به، وقيل: لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنساناً.
{يُخَادِعُونَ الله}: أي يخالفون الله ويُكذّبونه، وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه قيل للبيت الذي يُحيا فيه المتاع مُخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يُضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر:
أبيض اللون لذيذٌ طعمه *** طيّب الرّيق إذا الريق خدع
أي فسد.
فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه: يخادعون الله بزعمهم وفي ظنّهم، يعني إنهم اجترؤوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] يعني بظنّك وعلى زعمك.
وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله، كقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] أي أسخطونا، وقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله} [الأحزاب: 57] أي أولياء الله؛ لأن الله سبحانه لا يؤذي ولا يخادع، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبياً من أنبيائه وولياً من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى ولياً من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة.
وقيل: إنّ ذكر الله سبحانه في قوله: {يُخَادِعُونَ الله} تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضاً من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللصّ، وعافاك الله، قال الله عزّ وجلّ: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] وقال: {قَاتَلَهُمُ الله} [التوبة: 30] والمخادعة هاهنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع.
{والذين آمَنُوا} أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم.
قال الله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى.
قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإنّ مَنْ خادعه فإنما يخدع نفسه.
واختلف القرّاء في قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ} فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: {يخادعون} بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: {يُخَادِعُونَ الله} لم يختلفوا فيه إلاّ ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: {يخدعون الله} وقرأ الباقون {وما يخدعون} على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يعلمون إنها كذلك.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق، ومنه يُقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يُصححّه، وأصل المرض: الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق مرض به يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت.
{فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} شكّاً ونفاقاً وهلاكاً.
{وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع *** يؤرّقني وأصحابي هجوع
أي المسمع: يعني خيالها.
{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ.
وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.
{وَإِذَا}: حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، {قِيلَ}: فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فآستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياءاً لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد.
وقرأ الكسائي ويعقوب: قُيل، وغُيض، وحُيل، وسُيق، وجُيء، وشُيء وشُيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصّدر والمصدر.
{لَهُمْ}: يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن، وقال الضحّاك: تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله.
{قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {ألا}: كلمة تنبيه {إِنَّهُمْ}: هم عماد وتأكيد {المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ}: ما أُعدّ لهم من العذاب.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يعني: قال المؤمنون لليهود: {آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس} وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
{قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء} الجهّال. قال الله: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقّه، وقال المؤرّخ: السفيه: البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم.
قُطْرُب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق.
واختلف القرّاء في قوله: {السفهآء ألا} فحقّق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.
وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية؛ طلباً للخفّة، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف أي بالهمزة مما يسكت عليه.
{وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ}.
قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أُبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعداً قال: نعم الدينُ دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ محتجاً به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عبد الله بن أُبيّ لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السُّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثمَّ أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمَّ أخذ بيد علي فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإنّ المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمَّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلتُ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيراً، وقالوا: لانزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فأنزل الله {وَإِذَا لَقُواْ} أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، كان (لَقوا) في الأصل (لُقيوا) فإستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لإجتماعهما.
وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد.
{الذين آمَنُواْ}: يعني أبا بكر وأصحابه {قالوا آمَنَّا} كأيمانكم. {وَإِذَا خَلَوْا} رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوتُ به وخلوتُ إليه، وخلوتُ معهُ، كلها بمعنى واحد.
وقال النضر بن شميل: {إلى} ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187]: أي مع نسائكم، وقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] وقوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52] النابغة:
ولا تتركنّي بالوعيد كأنني *** إلى الناس مِطليٌّ به القار أجربُ
أي مع الناس.
وقال آخر:
ولوح ذراعين في بركة *** إلى جؤجؤرهل المنكب
أي مع جؤجؤ. {إلى شَيَاطِينِهِمْ}: أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم.
قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السَّوداء بالشام.
والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحيّة النضناض: الشيطان، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 65] أي الحيات، وتقول العرب: إتّق تلك الدابة فإنّها شيطان.
وفي الحديث: «إذا مرَّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان».
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه نظر إلى رجل يتبع حماماً طائراً فقال: «شيطان يتبع شيطاناً».
أراد الراعي الخبيث الداعي.
ويُحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له: وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب.
وقال أبو النجم:
إنّي وكل شاعر من البشر *** شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
{قالوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي على دينكم وأنصاركم.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بمحمد وأصحابه.
{الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسُمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثلهُ في الصورة كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] فسُمّي جزاء السيئة سيئة.
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلنّ أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال آخر:
نجازيهمُ كيل الصواع بما أتوا *** ومن يركب ابن العمّ بالظلم يُظلم
فسمّى الجزاء ظلماً.
وقيل: معناه: الله يوبّخهم ويعرضهم ويُخطّيء فعلهم؛ لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يُقال: إنّ فلاناً يُستهزأ به منذ اليوم، أي يُعاب. قال الله {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] أي تُعاب، وقال أخباراً عن نوح عليه السلام: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
وقال الحسن: معناه: الله يُظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس: هو أن الله يُطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم باب من الجنة، ويُقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ عليهم، وردّوا إلى النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى قوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].
الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدَّ الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أُذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي».
وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.
وهو قوله فيما بعد: {وَيَمُدُّهُمْ} يتركهم، ويمهلهم ويُطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويُقال: مدّ النهر، ومدّة: زمن آخر.
وقرأ ابن محيصن وشبل: {وَيُمِدُّهُمْ} بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزّ وجلّ في المد: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79]، وقال في الإمداد: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]، وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12].
{فِي طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يُقال: ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء} [الحاقة: 11] أي جاوز حدّه الذي قدّر له، وقال لفرعون: {إِنَّهُ طغى} [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حينما قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24].
{يَعْمَهُونَ} يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين.
يُقال: عمه يعمه عمهاً وعموهاً، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائراً عن الحق. قال رؤبة:
ومَهْمَه أَطْرَافُهُ في مَهْمَه *** أعمى الهُدى بالجاهلين العُمَّه
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}:
قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهُدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعاً؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الإستبدال والإختيار؛ وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر:
أخذتُ بالجُمَّة رأساً إزْعَرَا *** وبالثنايا الواضِحات الدُّرْدُرَا
وبالطويل العُمْر عمراً جَيدَرا *** كما اشترى المسلم إذ تنصّرا
أي اختار النصرانية على الإسلام.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: {اشتروا الضلالة} بكسر الواو؛ لأنّ الجزم يُحرّك إلى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات.
{فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ}: أي فما ربحوا في تجارتهم.
تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك.
قال الله عزّ وجلّ: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21]، وقال: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33].
قال الشاعر:
وأعور من نيهان أمّا نهاره *** فأعمى وأمّا ليله فبصير
وقال آخر:
حارثُ قد فرّجت عنّي همّي *** فنام ليلي وتجلّى غمّي
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: {فما ربحت تجاراتهم} بالجمع. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}: من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم.
قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} وقال: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].


{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
{مَثَلُهُمْ} شبههم. {كَمَثَلِ الذي} بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ثم قال: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177].
وقال الشاعر:
وانّ الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كلّ القوم يا أُمّ خالد
{استوقد}: أوقد ناراً كما يُقال: أجاب واستجاب.
قال الشاعر:
وداع دعانا من يجيب إلى الندّى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
{فَلَمَّآ أَضَاءَتْ} النار {مَا حَوْلَهُ} يقال: ضاء القمر يضوء ضوءاً، وأضاء يضيء إضاءةً وأضاء غيره: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ} النار يكون لازماً ومتعدّياً.
وقرأ محمد بن السميقع {ضاءت} بغير ألف. و{حوله} نصب على الظرف.
{ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بنورهم) والمذكور في أوّل الآية النار؛ لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم.
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}: قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فأستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فأتّقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيّراً، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم، فاذا ماتوا عادوا إلى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.
وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضّلالة.
سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حتى إنقطعت النبوة من بني اسرائيل وافضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول إذا خرج: فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا منه، ثم لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.
وقال الضحاك: لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحاً قاصفاً فأطفأها، فكذلك اليهود كلمّا أوقدوا ناراً لحرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله.
ثم وصفهم جميعاً فقال: {صُمٌّ}: أي هم صمٌّ عن الهدى فلا يسمعون.
{بُكْمٌ}: عنه فلا يقولون.
{عُمْيٌ}: عنه فلا يرونه.
وقيل: {صُمٌّ} يتصاممون عن سماع الحقّ، {بُكْمٌ} يتباكمون عن قول الحقّ، {عُمْيٌ} يتعامون عن النظر إلى الحق بغير إعتبار.
وقرأ عبد الله: {صمّاً بكماً عمياً} على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذّم، وقيل: على الحال.
{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الضلالة والكفر إلى الهداية والإيمان.
ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ} هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضاً معطوف على المثل الأوّل مجازه: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ومثلهم أيضاً كصيّب.
قال أهل المعاني: (أو) بمعنى الواو، يريد وكصيّب، كقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108] وأنشد الفرّاء:
وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر *** لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وأنشد أبو عبيدة:
يصيب قد راح يروي الغُدُرا *** فاستوعب الأرض لمّا أن سرا
وأصله من صاب يصوب صوباً إذا نزل.
قال الشاعر:
فلست لأنسي ولكن لملاك *** تنزّل من جوّ السماء يصوب
وقال أمرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامي ونشر القطر
فسمّي المطر صيّباً لأنّه ينزل من السماء.
واختلف النّحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلاّ في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأُدغمت إحدى اليائين في الأُخرى.
وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صَييِبْ فاستثقلت الكسرة على الياء فسُكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت إلى الكسر.
والسماء: كلّ ما علاك فأظلك وأصله: سماو؛ لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحداً أو جمعاً، قال الله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} [البقرة: 29] ثم قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29].
وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسموات جمع الجمع.
قال الرّاجز:
سماوة الهلال حتى احقوقفا *** طي الليالي زلفا فزلفا
{فِيهِ} أي في الصيّب، وقيل: في الليل كناية عن ضمير مذكور، وقيل: في السماء؛ لأنّ المراد بالسماء السّحاب، وقيل: هو عائد إلى السماء على لغة من يذكرها.
قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السّحاب
والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. وقال: {إِذَا السمآء انفطرت} [الإنفطار: 1].
{ظُلُمَاتٌ}: جمع ظلمة، وضُمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء.
وقرأ الأعمش: {ظُلْمات} بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد.
كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة:
أبتْ ذكر مَنْ عوّدن أحشاء قلبه *** خفوقاً ورفصات الهوى في المفاصل
ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد.
وقرأ أشهب العقيلي: {ظلمات} بفتح اللام، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها إلى أخفّ الحركات.
كقول الشاعر:
فلمّا رأونا بادياً ركباتنا *** على موطن لا نخلط الجدّ بالهزل
{وَرَعْدٌ}: وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.
{وَبَرْقٌ}: وهو النار الذي تخرج منه.
قال مجاهد: الرعد ملك يسبّح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصّريم أيضاً رعد.
والبرق: ملك يسوق السحاب.
وقال عكرمة: الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل.
شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فاذا انتبذت السحاب ضمّها فاذا اشتدَّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق.
ربيعة بن الأبيض عن علي عليه السلام قال: البرق مخاريق الملائكة.
وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان.
وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصّعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشيَ عليه، وصعق، إذا مات.
{حَذَرَ الموت} أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة.
وقرأ قتادة: حذار الموت.
{والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي عالم بهم، يدل عليه قوله: {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]: أي تهلكوا جميعاً.
وأمال أبو عمرو والكسائي {الكافرين} في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء.
{يَكَادُ البرق} أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل بحذف أن فاذا سببّوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن تمسحا... {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطّاف.
وقرأ أُبيّ: يتخطف.
وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد {يخطّف} فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.
وقرأ العامة: التخفيف لقوله: {فَتَخْطَفُهُ الطير} [الحج: 31] وقوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} [الصافات: 10]. {كُلَّمَا}: حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما.
{أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ}: وفي حرف عبد الله [.....].
{وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي أقاموا ووقفوا متحيّرين.
القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما:
قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} أي كأصحاب صيّب، كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددّهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}.
ورعد من صفته أن يضع السامع يده إلى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت}.
وبرق من صفته أنْ يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقدّه، وذلك قوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}.
وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه:
فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.
{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن.
{وَرَعْدٌ}: وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي.
{وَبَرْقٌ}: وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة.
فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب إلى القرآن فيؤدّي ذلك إلى الإيمان؛ لأنّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم كفر والكفر موت.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتاً إلاّ ظنّ أنه قد أُتي ولا يسمع صياحاً إلاّ ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية أخرى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو} [المنافقون: 4].
وقوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمِنوا وصارت لهم نوراً فاذا ماتوا عادوا إلى الخشية والظلمة.
قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحَسُن حاله وأصاب في الإسلام رخاءً وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيراً وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} [الحج: 11] الآية.
الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأُحد ارتدّوا وسكتوا.
{وَلَوْ}: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.
ومعنى الآية: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّاً بكماً عمياً.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قادر، وكان حمزة يكسر شاء، وجاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدّت وطبت وغيرها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8